في يوم ما في احدي محطات المترو مرت وسط الحشود بملابس مهلهلة وشعر
غجري امرأة تبدو غير طبيعية أو لعلها ممن يدَّعون الخلل العقلي لجمع المال
بالتسول واقتربت من شاب وصرخت في وجهه ثم أكملت طريقها بعد أن تسببت فيفزع
للشاب ولكل المتواجدين علي جانبي المحطة. فينفس المكان كان يجلس شاب علي
مقعد المترو يتابع ذلك الموقف بكل برود وكأنه يشاهد حلقة قديمة من الكاميرا
الخفية التي يغلب عليها التصنع والأداء غير المقنع.فجأة قررت تلك المرأة
النزول إلي قضيب المترو وظن الركاب أنها في طريقها للانتقال إلي الجانب
الآخر ولكنها قررت أن تعصف بهدوئهم بوقوفها علي القضيب دون أن تكمل طريقها
للجانب الآخر، تعجب الجميع وتبادلوا نظرات تحمل معني ماذا تفعل تلك المختلة
وذلك الشاب مازال جالساً في مكانه دون إبداء أي انطباع محتفظاً بنفس ملامح
وجهه التي تعبر عن شعوره العميق بالملل.
انتهت
حالة التعجب وقضيت فترة التساؤل بعد أندوي في المكان أصوات الإنذار لتعلن
عن قدوم القطار، فحل الذعر علي الجميع وملأ التوتر أرجاء المحطة، البعض بدأ
في تنبيه المرأة الواقفة في طريق القطار، البعض أصابه الخوف بالشلل وفقد
القدرة علي فعل أي شيء. اقترب صوت القطار أكثر فأكثر فبدأ البعض بالصياح
أكثر وأكثر لتنبيه المرأة والبعض الآخر بدأ في تغطية عينيه حتي لا يري
مشهداً من المتوقع أن يكون دموي، كل ذلك والشاب الهادئ يحافظ علي هدوئه ولا
يحرك ساكناً و ﻻ يغير تعبيرات وجهه معلنا إصراره علي عدم التفاعل كما ينبغي
لأي آدمي أن يتفاعل.
اقترب
صوت القطار بشكل أكبر وكما يبدو أن تلك المرأة لم يعد أمامها الكثير
لتختفي من عالم الأحياء فحل الصمت والسكون المحطة وبدا الجميع وكأنهم
تماثيل تم نحتها لتعبر عن معني الذعر. وفجأة هلعت المرأة وكأنها فاقت من
غيبوبة وهرولت مبتعدة عن القضبان ودخل القطار المحطة بسلام لتعود تلك
التماثيل إلي الحياة وتبدأ مرة أخري في التنفس والتحرك رغم ترك الصدمة
أثرها علي الجميع باستثناء ذلك الشاب الذي أخيراً تحرك من مكانه ليلحق
بالقطار مع الاحتفاظ بتعبيرات الملل وعدم التفاعل.
كل
ما سبق ذكره قصة حقيقة وحدثت بالفعل دون تحريف والشاب البارد الهادئ
المحتفظ بملامح الملل هو أنا ولا أنكر أنني فوجئت برد فعلي مثل أي شخص
سيفاجأ ويسب ذلك الشاب غير أنني بالتأكيد لم أسبه. أعرف أن للخطر هيبة
وللموت جلالة لكن أية جلالة التي تتحدثون عنها ؟ نحن خلال عامين سمعنا
بسقوط قتلي كالذين يعيشون في دولة محاربة،لقد مرت علينا أيام كنا نقرأ خبر
سقوط عشرات ولا نعلم هل ذلك الخبر في سوريا أم فلسطين أم في مصر حتي نصل
لنهاية الخبر،لقد اصبحنا نعيش ونتعايش مع الموت.حدثوني أكثر عن شخص لكي
يذهب لعمله يومياً يستمع للراديو ليس لمعرفة الشوارع المزدحمة وإنما لمعرفة
مناطق الاشتباكات لتجنبها،حدثوني أكثر عن سماعنا يومياً بقصص حوادث قطع
الطرق والأستاذ فلان جارنا الذي قطعوا عليه الطريق الدائري وسرقوا سيارته
بالإكراه، وابن الحاج علان الذي كان عائداً ليلاً فخرج عليه بعض المجرمين
سرقوه وعندما قاومهم قتلوه، حدثوني أكثر عن شعورنا عند سماع أول حادث تعذيب
في الأقسام وشعورنا الآن بعد سماعنا بحالات تعذيب جماعي في سجون رسمية
وأخري غير رسمية. لقد عشنا جميعاً أكثر من عامين في حياة استثنائية، لذا
كان علينا الاختيار بين تجميد الحياة وبين استمرارها.ذلك الاختيار في باطنه
الاختيار بين التفاعل الآدمي والتبلد، مع ملاحظة أن التفاعل الآدمي يعني
أن تقف الحياة من هول الصدمات الإنسانية ولكننا قررنا أن تستمر الحياة فلا
تلوموني علي التبلد فهو تبلد مشروع